سورة يوسف - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


قيل إن {السيارة} جاءت في اليوم الثاني من طرحه في الجب، {سيارة}: جمع سيار، كما قالوا بغال وبغالة، وهذا بعكس تمرة وتمر، و{سيارة}: بناء مبالغة للذين يرددون السير في الطرق. وروي أن هذه {السيارة} كانوا قوماً من أهل مدين، وقيل: قوم أعراب. والوارد هو الذي يأتي الماء ليسقي منه لجماعة، ويروى أن مدلي الدلو كان يسمى مالك بن ذعر، ويروى أن هذا الجب كان بالأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، ويقال: {أدلى الدلو}: إذا ألقاه في البئر ليستقي الماء. ودلاه يدلوه: إذا استقاه من البئر. وفي الكلام هنا حذف تقديره: فتعلق يوسف بالحبل فلما بصر به المدلي قال: يا بشرأي، وروي أن يوسف كان يومئذ ابن سبع سنين، ويرجح هذا لفظة {غلام}، فإنه ما بين الحولين إلى البلوغ، فإن قيلت فيما فوق ذلك فعلى استصحاب حال وتجوز؛ وقيل: كان ابن سبع عشرة سنة- وهذا بعيد-.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {يا بشرأيَ} بإضافة البشرى إلى المتكلم وبفتح الياء على ندائها كأنه يقول: احضري، فهذا وقتك، وهذا نحو قوله: {يا حسرة على العباد} [يس: 30] وروى ورش عن نافع {يا بشرأيْ} بسكون الياء، قال أبو علي: وفيها جمع بين ساكنين على حد دابة وشابة، ووجه ذلك أنه يجوز أن تختص بها الألف لزيادة المد الذي فيها على المد الذي في أختيها، كما اختصت في القوافي بالتأسيس، واختصت في تخفيف الهمزة نحو هبأة وليس شيء من ذلك في الياء والواو.
وقرأ أبو الطفيل والجحدري وابن أبي إسحاق والحسن {يا بشريَّ} تقلب الألف ياء ثم تدغم في ياء الإضافة، وهي لغة فاشية، ومن ذلك قول أبي ذؤيب: [الكامل]
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهمُ *** فتخرموا ولكل جنب مصرع
وأنشد أبو الفتح وغيره في ذلك:
يطوّف بيَّ كعب في معد *** ويطعن بالصملة في قفيا
فإن لم تثأروا لي في معد *** فما أرويتما أبداً صديا
وقرأ حمزة والكسائي {يا بشرِي} ويميلان ولا يضيفان. وقرأ عاصم كذلك إلا أنه يفتح الراء ولا يميل، واختلف في تأويل هذه القراءة فقال السدي: كان في أصحاب هذا الوارد رجل اسمه بشرى، فناداه وأعلمه بالغلام، وقيل: هو على نداء البشرى- كما قدمنا- والضمير في قوله: {وأسروه} ظاهر الآيات أنه ل وارد الماء،- قاله مجاهد، وقال: إنهم خشوا من تجار الرفقة إن قالوا: وجدناه أن يشاركوهم في الغلام الموجود.
قال القاضي أبو محمد: هذا إن كانوا فسقة أو يمنعوهم من تملكه إن كانوا خياراً، فأسروا بينهم أن يقولوا: أبضعه معنا بعض أهل المصر.
و {بضاعة} حال، والبضاعة: القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الربح، مأخوذة من قولهم: بضعت أي قطعت. وقيل: إنهم أسروا في أنفسهم يتخذونه بضاعة لأنفسهم أي متجراً، ولم يخافوا من أهل الرفقة شيئاً، ثم يكون الضمير في قوله: {وشروه} لهم أيضاً، أي باعوه بثمن قليل، إذ لم يعرفوا حقه ولا قدره، بل كانوا زاهدين فيه، وروي- على هذا- أنهم باعوه من تاجر. وقال مجاهد: الضمير في {أسروه} لأصحاب الدلو، وفي {شروه} لإخوة يوسف الأحد عشر، وقال ابن عباس: بل الضمير في {أسروه} و{شروه} لإخوة يوسف.
قال القاضي أبو محمد: وذلك أنه روي أن إخوته لما رجعوا إلى أبيهم وأعلموه رجع بعضهم إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف، ويقفوا على الحقيقة من فقده فلما علموا أن الوراد قد أخذوه جاؤوهم فقالوا: هذا عبد أبق لأمنا ووهبته لنا ونحن نبيعه منكم، فقارهم يوسف على هذه المقالة خوفاً منهم، ولينفذ الله أمره؛ فحينئذ أسره إخوته إذ جحدوا إخوته فأسروها، واتخذوه {بضاعة} أي متجراً لهم ومكسباً {وشروه} أيضاً {بثمن بخس}، أي باعوه.
وقوله {والله عليم بما يعملون} إن كانت الضمائر لإخوة يوسف ففي ذلك توعد، وإن كانت الضمائر للواردين ففي ذلك تنبيه على إرادة الله تعالى ليوسف، وسوق الأقدار بناء حاله، فهو- حينئذ- بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يدبر ابن آدم والقضاء يضحك».
وفي الآية- أيضاً- تسلية للنبي عليه السلام عما يجري عليه من جهة قريش، أي العاقبة التي للمتقين هي المراعاة والمنتظرة.
و {شروه}- هنا- بمعنى باعوه، وقد يقال: شرى، بمعنى اشترى، ومن الأول قول يزيد بن مفرغ الحميري: [مجزوء الكامل]
وشريتُ برداً ليتني *** من بعد بردٍ كنتُ هامَهْ
برد: اسم غلام له ندم على بيعه، والضمير يحتمل الوجهين المتقدمين؛ و{البخس} مصدر وصف به الثمن وهو بمعنى النقص- وهذا أشهر معانيه- فكأنه القليل الناقص0 وهو قول الشعبي- وقال قتادة: البخس هنا بمعنى الظلم، ورجحه الزجاج من حيث الحر لا يحل بيعه، وقال الضحاك: وهو بمعنى الحرام، وهذا أيضاً بمعنى لا يحل بيعه.
وقوله: {دراهم معدودة} عبارة عن قلة الثمن لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما دون الأوقية، وهي أربعون درهماً، واختلف في مبلغ ثمن يوسف عليه السلام: فقيل باعوه بعشرة دراهم، وقال ابن مسعود: بعشرين، وقال مجاهد: باثنين وعشرين أخذ منها إخوته درهمين وقال عكرمة: بأربعين درهماً دفعت ناقصة خفافاً، فهذا كان بخسها.
وقوله: {وكانوا فيه من الزاهدين} وصف يترتب في ورّاد الماء، أي كانوا لا يعرفون قدره، فهم لذلك قليل اغتباطهم به، لكنه أرتب في إخوة يوسف إذ حقيقة الزهد في الشيء إخراج حبه من القلب ورفضه من اليد، وهذه كانت حال إخوة يوسف في يوسف، وأما الورّاد فتمسكهم به وتجرهم يمانع زهدهم إلا على تجوز.
وقوله {فيه} ليست بصلة ل {الزاهدين}- قاله الزجاج وفيه نظر لأنه يقتضي وصفهم بالزهد على الإطلاق وليس قصد الآية هذا، بل قصدها الزهد الخاص في يوسف، والظروف يجوز فيها من التقديم ما لا يجوز في سائر الصلات، وقد تقدم القول في عود ضمير الجماعة الذي في قوله: {وشروه}.


روي أن مبتاع يوسف- وهو الوارد من إخوته أو التاجر من الوراد، حسبما تقدم من الخلاف- ورد به مصر، البلد المعروف، ولذلك لا ينصرف، فعرضه في السوق، وكان أجمل الناس، فوقعت فيه مزايدة حتى بلغ ثمناً عظيماً- فقيل: وزنه من ذهب ومن فضة ومن حرير فاشتراه العزيز، وكان حاجب الملك وخازنه، واسم الملك الريان بن الوليد، وقيل مصعب بن الريان، وهو أحد الفراعنة، وقيل: هو فرعون موسى، عمر إلى زمانه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وذلك أن ظهور يوسف عليه السلام لم يكن في مدة كافر يخدمه يوسف؛ واسم العزيز المذكور: قطفير، قاله ابن عباس، وقيل: أطفير، وقيل: قنطور؛ واسم امرأته: راعيل، قاله ابن إسحاق، وقيل ربيحة، وقيل: زليخا، وظاهر أمر العزيز أنه كان كافراً، ويدل على ذلك كون الصنم في بيته- حسبما نذكره في البرهان الذي رأى يوسف- وقال مجاهد: كان العزيز مسلماً.
و المثوى مكان الإقامة، والإكرام إنما هو لذي المثوى، ففي الكلام استعارة وقوله: {عسى أن ينفعنا}، أي بأن يعيننا في أبواب دنيانا وغير ذلك من وجوه النفع، وقوله: {أو نتخذه ولداً} أي نتبناه، وكان فيما يقال لا ولد له.
ثم قال تعالى: {وكذلك}، أي كما وصفنا {مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه} فعلنا ذلك. و{الأحاديث}: الرؤيا في النوم- قاله مجاهد- وقيل: أحاديث الأمم والأنبياء.
والضمير في {أمره} يحتمل أن يعود على يوسف، قال الطبري، ويحتمل أن يعود على الله عز وجل، قاله ابن جبير، فيكون إخباراً منبهاً على قدرة الله عز وجل ليس في شأن يوسف خاصة بل عاماً في كل أمر. وكذلك الاحتمال في قول الشاعر: [الطويل]
رأيت أبا بكر- وربك- غالب *** على أمره يبغي الخلافة بالتمر
وأكثر الناس الذين نفي عنهم العلم هم الكفرة، وفيهم الذين زهدوا في يوسف وغيرهم ممن جهل أمره، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أصح الناس فراسة ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: {أكرمي مثواه}، وابنة شعيب حين قالت: {استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب.
قال القاضي أبو محمد: وفراسة العزيز إنما كانت في نفس نجابة يوسف لا أنه تفرس الذي كان كما في المثالين الآخرين، فإن ما تفرس خرج بعينه.
و الأشد: استكمال القوة وتناهي البأس، أولهما البلوغ وقد عبر عنه مالك وربيعة ببنية الإنسان، وهما أشدان: وذكره منذر بن سعيد، والثاني: الذي يستعمله العرب وقيل: هو من ثماني عشرة سنة إلى ستين سنة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف. وقيل: الأشد: بلوغ الأربعين، وقيل: بل ستة وثلاثون. وقيل: ثلاثة وثلاثون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو أظهر الأقوال-فيما نحسبه- وهو الأسبوع الخامس، وقيل: عشرون سنة، وهذا ضعيف. وقال الطبري: الأشد لا واحد له من لفظه، وقال سيبويه: الأشد جمع شدة نحو نعمة وأنعم، وقال الكسائي: أشد جمع شد نحو قد وأقد، وشد النهار: معظمه وحيث تستكمل نهاريته.
وقوله: {حكماً} يحتمل أن يريد الحكمة والنبوءة، وهذا على الأشد الأعلى، ويحتمل الحكمة والعلم دون النبوءة، وهذا أشبه إن كانت قصة المراودة بعد هذا. و{علماً} يريد تأويل الأحاديث وغير ذلك. ويحتمل أن يريد بقوله: {حكماً} أي سلطاناً في الدنيا وحكماً بين الناس بالحق. وتدخل النبوة وتأويل الأحاديث وغير ذلك في قوله: {وعلماً}.
{وكذلك نجزي المحسنين} ألفاظ فيها وعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يهولنك فعل الكفرة بك وعتوهم عليك فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع.


المراودة: الملاطفة في السوق إلى غرض، وأكثر استعمال هذه اللفظة إنما هو في هذا المعنى الذي هو بين الرجال والنساء؛ ويشبه أن يكون من راد يرود إذا تقدم لاختبار الأرض والمراعي، فكان المراود يختبر أبداً بأقواله وتلطفه حال المراود من الإجابة أو الامتناع.
وفي مصحف وكذلك رويت عن الحسن: و{التي هو في بيتها} هي زليخا امرأة العزيز. وقوله {عن نفسه} كناية عن غرض المواقعة. وقوله: {وغلقت} تضعيف مبالغة لا تعدية، وظاهر هذه النازلة أنها كانت قبل أن ينبأ عليه السلام.
وقرأ ابن كثير وأهل مكة: {هَيْتُ} بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وابن محيصن وأبو الأسود وعيسى بفتح الهاء وكسر التاء {هَيتِ}، وقرأ ابن مسعود والحسن والبصريون {هَيْتَ} بفتح الهاء والتاء وسكون الياء، ورويت عن ابن عباس وقتادة وأبي عمرو، قال أبو حاتم: لا يعرف أهل البصرة غيرها وهم أقل الناس غلواً في القراءة، قال الطبري: وقد رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ نافع وابن عامر {هِيْتَ} بكسر الهاء وسكون الياء وفتح التاء- وهي قراءة الأعرج وشيبة وأبي جعفر- وهذه الأربع بمعنى واحد، واختلف باختلاف اللغات فيها، ومعناه الدعاء أي تعال وأقبل على هذا الأمر، قال الحسن: معناها هلمَّ، ويحسن أن تتصل بها {لك} إذ حلت محل قولها: إقبالاً أو قرباً، فجرت مجرى سقياً لك ورعياً لك، ومن هذا قول الشاعر يخاطب علي بن أبي طالب: [مجزوء الكامل]
أبلغ أمير المؤمنين *** أخا العراق إذا أتينا
أن العراق وأهله *** عنق إليك فهيت هيتا
ومن ذلك على اللغة الأخرى قول طرفة: [الخفيف]
ليس قومي بالأبعدين إذا ما *** قال داع من العشيرة هيت
ومن ذلك أيضاً قول الشاعر: [الرجز]
قد رابني أن الكرى قد أسكتا *** ولو غدا يعني بنا لهيتا
أسكت: دخل في سكوت، و{هيت} معناه: قال: هيت، كما قالوا: أقف إذا قال: أف أف، ومنه سبح وكبر ودعدع إذ قال: داع داع.
والتاء على هذه اللغات كلها مبنية فهي في حال الرفع كقبل وبعد، وفي الكسر على الباب لالتقاء الساكنين، وفي حال النصب ككيف ونحوها؛ قال أبو عبيدة: و{هيت} لا تثنى ولا تجمع، تقول العرب: {هيت لك}، وهيت لكما، وهيت لكم.
وقرأ هشام ابن عامر {هِئتُ}، بكسر الهاء والهمز، ضم التاء وهي قراءة علي بن أبي طالب، وأبي وائل، وأبي رجاء ويحيى، ورويت عن أبي عمرو، وهذا يحتمل أن يكون من هاء الرجل يهيء إذا أحسن هيئته- على مثال جاء يجيء- ويحتمل أن يكون بمعنى تهيأت، كما يقال: فئت وتفيأت بمعنى واحد، قال الله عز وجل:
{يتفيؤا ظلاله} [النحل: 48] وقال: {حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات: 9].
وقرأ ابن أبي إسحاق- أيضاً- {هِيْت} بتسهيل الهمزة من هذه القراءة المتقدمة. وقرأ ابن عباس- أيضاً- {هيت لك}. وقرأ الحلواني عن هشام {هِئتِ} بكسر الهاء والهمز وفتح التاء قال أبو علي: ظاهر أن هذه القراءة وهم، لأنه كان ينبغي أن تقول: هئتَ لي، وسياق الآيات يخالف هذا. وحكى النحاس: أنه يقرأ {هِيْتِ} بكسر الهاء وسكون الياء وكسر التاء. و{معاذَ} نصب على المصدر ومعنى الكلام أعوذ بالله.
ثم قال: {إنه ربي} فيحتمل أن يعود الضمير في {إنه} على الله عز وجل، ويحتمل أن يريد العزيز سيده، أي فلا يصلح لي أن أخونه وقد أكرم مثواي وائتمنني، قال مجاهد، والسدي {ربي} معناه سيدي، وقاله ابن إسحاق.
قال القاضي أبو محمد: وإذا حفظ الآدمي لإحسانه فهو عمل زاك، وأحرى أن يحفظ ربه.
ويحتمل أن يكون الضمير للأمر والشأن، ثم يبتدئ {ربي أحسن مثواي}.
والضمير في قوله: {إنه لا يفلح} مراد به الأمر والشأن فقط، وحكى بعض المفسرين: أن يوسف عليه الصلاة والسلام- لما قال: معاذ الله ثم دافع الأمر باحتجاج وملاينة، امتحنه الله تعالى بالهم بما هم به، ولو قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ودافع بعنف وتغيير- لم يهم بشيء من المكروه.
وقرأ الجحدري {مثواي} وقرأها كذلك أبو طفيل وروي عن النبي عليه السلام: «فمن تبع هداي».
وقوله: {ولقد همت به} الآية، لا شك أن هم زليخا كان في أن يواقعها يوسف، واختلف في هم يوسف عليه السلام، فقال الطبري: قالت فرقة: كان مثل همها، واختلفوا كيف يقع من مثل يوسف وهو نبي؟ فقيل ذلك ليريه الله تعالى موقع العفو والكفاية، وقيل الحكمة في ذلك أن يكون مثالاً للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع بهم إلى عفو الله كما رجعت بمن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخا وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو هذا، وهي قد استلقت له؛ قاله ابن عباس وجماعة من السلف.
وقالت فرقة في همه إنما كان بخطرات القلب التي لا يقدر البشر عن التحفظ منها، ونزع عند ذلك ولم يتجاوزه، فلا يبعد هذا على مثله عليه السلام، وفي الحديث: «إن من هم بسيئة ولم يعملها فله عشر حسنات» وفي حديث آخر «حسنة»، فقد يدخل يوسف في هذا الصنف.
وقالت فرقة: كان هم يوسف بضربها ونحو ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف البتة، والذي أقول في هذه الآية: إن كون يوسف نبياً في وقت هذه النازلة لم يصح ولا تظاهرت به رواية، وإذا كان ذلك فهو مؤمن قد أوتي حكماً وعلماً ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته، وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة؛ وإن فرضناه نبياً في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو الخاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكة ونحو ذلك، لأن العصمة مع النبوة، وما روي من أنه قيل له: تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء، فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد، والهم بالشيء مرتبتان: فالواحدة الأولى تجوز عليه مع النبوة، والثانية الكبرى لا تقع إلا من غير نبي، لأن استصحاب خاطر المعصية والتلذذ به معصية تكتب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفوسها مالم تنطق به أو تعمل» معناه من الخواطر، وأما استصحاب الخاطر فمحال أن يكون مباحاً، فإن وقع فهو خطيئة من الخطايا لكنه ليس كمواقعة المعصية التي فيها الخاطر، ومما يؤيد أن استصحاب الخاطر معصية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه».
وقوله الله تعالى: {إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12] وهذا منتزع من غير موضع من الشرع، والإجماع منعقد أن الهم بالمعصية واستصحاب التلذذ بها غير جائز ولا داخل في التجاوز.
واختلف في البرهان الذي رأى يوسف، وقيل: نودي. واختلف فيما نودي به، فقيل ناداه جبريل: يا يوسف، تكون في ديوان الأنبياء. وتفعل فعل السفهاء؟ وقيل: نودي: يا يوسف، لا تواقع المعصية فتكون كالطائر الذي عصى فتساقط ريشه فبقي ملقى- ناداه بذلك يعقوب-، وقيل غير هذا مما في معناه، وقيل: كان البرهان كتاباً رآه مكتوباً، فقيل: في جدار المجلس الذي كان فيه، وقيل: بين عيني زليخا، وقيل: في كف من الأرض خرجت دون جسد؛ واختلف في المكتوب، فقيل: قوله تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد: 33]، وقيل: قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء: 32] وقيل غير هذا. وقيل: كان البرهان أن رأى يعقوب عليه السلام ممثلاً معه في البيت عاضاً على إبهامه وقيل: على شفته. وقيل بل انفرج السقف فرآه كذلك. وقيل: إن جبريل قال له: لئن واقعت المعصية لأمحونك من ديوان النبوة، وقيل: إن جبريل ركضه فخرجت شهوته على أنامله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقيل: بل كان البرهان فكرته في عذاب الله ووعيده على المعصية، وقيل: بل كان البرهان الذي اتعظ به أن زليخا قالت له: مكانك حتى أستر هذا الصنم- لصنم كان معها في البيت- فإني أستحيي منه أن يراني على هذه الحال؛ وقامت إليه فسترته بثوب فاتعظ يوسف وقال: من يسترني أنا من الله القائم على كل شيء، وإذا كنت أنت تفعلين هذا لما لا يعقل فإن أولى أن أستحيي من الله.
و البرهان في كلام العرب الشيء الذي يعطي القطع واليقين، كان مما يعلم ضرورة أم بخبر قطعي أو بقياس نظري، فهذه التي رويت فيما رآه يوسف براهين.
و {أن} في قوله: {لولا أن رأى} في موضع رفع، التقدير: لولا رؤيته برهان ربه، وهذه {لولا} التي يحذف معها الخبر، تقديره: لفعل أو لارتكب المعصية. وذهب قوم إلى أن الكلام تم في قوله: {ولقد همت به} وأن جواب {لولا} في قوله: {وهم بها} وأن المعنى: لولا أن رأى البرهان لهمَّ أي فلم يهم عليه السلام، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف. قال الزجّاج: ولو كان الكلام: ولهمَّ بها لولا، لكان بعيداً، فكيف مع سقوط اللام!.
والكاف من قوله: {كذلك} متعلقة بمضمر تقديره: جرت أفعالنا وأقدارنا {كذلك لنصرف}، ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير: عصمتنا له كذلك لنصرف.
وقرأ الجمهور {لنصرف} بالنون، وقرأ الأعمش {ليصرف} بالياء- على الحكاية عن الغائب-، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء {المخلِصين} بكسر اللام في كل القرآن، وكذلك {مخلصاً} [مريم: 51] في سورة مريم. وقرأ نافع {مخلصاً} [الزمر: 2-11-14، مريم: 51] كذلك بكسر اللام، وقرأ سائر القرآن {المخلَصين} بفتح اللام، وقرأ حمزة والكسائي وجمهور من القراء {المخلَصين} بفتح اللام و{مخلصاً} كذلك في كل القرآن.
وقوله تعالى: {واستبقا الباب} الآية، {واستبقا} معناه سابق كل واحد منهما صاحبه إلى الباب، هي لترده إلى نفسها وهو ليهرب عنها؛ فقبضت في أعلى قميصه من خلفه، فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص. و{لقد}: القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولاً، والقط يستعمل فيما كان عرضاً، وكذلك هي اللفظة في قول النابغة:
تقد السلوقي ***
فإن قوله: توقد بالصفاح يقتضي أن القطع بالطول. و{ألفيا}: وجدا، والسيد الزوج، قاله زيد بن ثابت ومجاهد. فيروى أنهما وجدا العزيز ورجلاً من قرابة زليخا عند الباب الذي استبقا إليه قاله السدي. فلما رأت الفضيحة فزعت إلى مطالبة يوسف والبغي عليه، فأرت العزيز أن يوسف أرادها، وقالت: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم} وتكلمت في الجزاء، أي أن الذنب ثابت متقرر. وهذه الآية تقتضي بعظم موقع السجن من النفوس لا سيما بذوي الأقدار، إذ قرن بأليم العذاب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8